الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله إلتقت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم محاط ّ العظمة , وإشتبكت لديه وشائج القربى من الله والحظوى في الدنيا والآخرة وتطلعت إليه أنظار الخليقة أجميعن , يتنسمون أريجاً من شذاه ويرمقون زهرة من جناه , فهو ملء السمع والبصر ومحط العين والفؤاد . وكان من اشد الناس التصاقاً بالنبي صلى الله عليه وسلم وتزاحماً على حوضه وتنافساً إلى حماه أمهات المؤمنين رضي الله عنهن. وليس بدعاً أن تسلك إلى قلوب هؤلاء النساء الطاهرات عقارب الغيرة حباً فيه , وأثرة عليه فتدب دبيباً خفيفاً , وتسري إلى الفؤاد فتوري فيه ناراً لا ينطفئ لظاها إلا بالقرب من نبي الله الكريم . ألسن من النساء اللاتي غلبتهن قوة العاطفة وتملكتهن دوافع الغيرة والاثرة في كل عصر وزمان ؟ أو ليست قلوبهن تصبو , ونفوسهن تحنو وآمالهن تتدافع ورجاؤهن يفيض لخير الناس اجمعين ! كان النبي الكريم يفيض قلبه بعاطفة الأبوة , وتحنو نفسه إلى بنته زينب , فإذا رآها أنس بها , وأطمأن إليها , وأنشرح صدره , لأنها ثمرة نفسه وحبه حتى إذاافل نجمها , فذهبت إلى جوار ربها إستوحش إليها وإمتدت آماله إلى الولد ليمسح عن قلبه إنقباض الوحدة وأثر الفاجعة . ومازال الرسول الكريم في وحشته وإنقباضه يدفعه شوقٌ أن يكتحل بسنا نور إبن كريم وهو في حنينه و وحشته تدب في قلبه حسرة وأسى لأنه شارف الستين من عمره و أوشك مصباح حياته أن ينطفئ ! فما هو ببالغ أملاً يشيمه كلوالد , ولا يتنفس بروح يتنسمه كل أب يفيض قلبه بالعطف والحنان . حملت إلى النبي الكريم من المقوقس والي مصر هدايا .. ومن بينها مارية القبطية فقبلها النبي صلى الله عليه وسلم وأنزلها منزلة السراري ولم يهبها ما وهب لأزواجه ... فلم يخصص لها منزلا ً بجوار المسجد كغيرها من أمهات المؤمنين بل أنزلها بالعالية ( إسم ما كان منجهة نجد من المدينة من قراها وعمائرها إلى تهامة فهي العالية ) من ضواحي المدينة , في منزل يحيط به الكرم والزرع والنخيل . وظل الرسول الكريم يختلف إليها , ولها منهما يحل للرجل فيمن ملكت يمينه حتى إذا حملت مارية , وولدت إبراهيم , تفجرت ينابيع البشر والسرور في قلب أبيه , وأنست نفس الوالد عطفاً ورحمة وحناناً بولده الأغر الميمون , وإرتفعت مكانة مارية , فصارت إلى مصاف الزوجات المقربات , وإزدادت بذلك حظوة عنده , وكانة ملأت قلبها بالمسرة , وإنقلبت إلى ربها بالشكران والتسبيح . وكان الرسول صلى الله عليه وسلم حفياً بولده , قرير العين به رضي النفس له مطمئن الفؤاد لمولده فصار يختلف إلى منزل مارية يطلع كل يوم في إفقه مشرق هذا الغلام ... وينعمبإبتسامته البريئة الطاهرة .. ويفيض عليه كثيراً من حنان الأبوة , وطهارة النبوةويغمره بهذا الفيض الإلهي العميم ... وقد حمله يوماً بين ذراعيه إلى عائشة فنفست عليه ( ضنت عليه ) وحجبتها الغيرة أن تهش وتبش للغلام الكريم ... كذلك كانت الأثرة والغيرة تدب في قلوب نساء النبي , كلما رأين منه إقبالاً على مارية وحباً وتعلقاًبولدها . كان الرسول يخص نساءه بمكانة محترمة و ينزلهن منزلاً عزيزاً وينفحهن أبداًبعطف وإجلال وتكريم على غير عادة العرب في الجاهلية فلما رأينه يفيض عليهن من عظمته وكرمه جنحت نفوسهن فتغالين في الإستمتاع بحريتهن وإتخذن من بعض الحوادث مسلكاً إلى إغضاب الرسول ... كان الرسول في منزل حفصة فإستأذنته أن تذهب إلى ابيها فاذن لها وفي غضون غيبتها جاءت مارية فأقامت مع النبي صلى الله عليه وسلم زمناً , فلما حضرتحفصة رأت مارية في بيتها فإنتظرت خروجها , وقلبها يشتعل وجداً وغيرة ... ولما خرجتدخلت حفصة على النبي صلى الله عليه وسلم , فقالت : لقد رأيت من كان عندك , وما كنت تصنعها لولا هواني عليك ! وأدرك الرسول صلى الله عليه وسلم أن الغيرة قد تدفع حفصةإلى إذاعة ما رأت والتحدث به إلى غيرها من الأزواج , وفي ذلك ما فيه من إثارةلغيرتهن وتحريك لحفيظتهن فأراد إرضاءها فحلف لها أن مارية حرام عليه إذا هيه لمتذكر مما رأت شيئاً ... فوعدته أن تكف عن إذاعة ماكان ... ولكن الطبيعة النسويةكانت أقوى جماحاً .. إذ تحركت الغيرة تأكل صدرها فلم تطق كتمان ما وعدت بكتمانه , فأسرته إلى عائشة وذاع الأمر بين نساء النبي كلهن . فأكثرن من الحديث في شأنه والجدل في أمره والنبي صلى الله عليه وسلم ليس خلياً لهذا النوع من اللجاج والغيرة , فأراد أن يلقي عليهن درساً ليكون عبرة لهن وتذكرة . عزم النبي صلى الله عليه وسلمأن ينقطع عن نسائه شهراً كاملاً تأديباً وردعاً لهن عما تمادين فيه ... وليخفف فيهن عوامل الغيرة .... فأدى به عزمه أن يذهب إلى خزانة له , يرقى إليها على جذع من نخل وليس بها من فراش إلا حصير جاف خشن , وحسبه هناك لقيمات من شعير يقمن صلبه ... ثمهو يجلس غلامه رباحاً على سدتها ( باب الدار ) دفعاً للحاجة الزائرين . والرسول صلى الله عليه وسلم في خلوته يتجه بتفكيره إلى ربه ويدبر أمر المسلمين في الجزيرة , وفيما وراء الجزيرة والمسلمون في هم مقيم مُقعد وشغلهم الشاغل إنقطاع النبي فيخلوته , حتى لقد شاع بينهم أنه طلق حفصة بنت عمر بعد أن كان من إفشائها ما وعدت بكتمانه أو أنه مطلق نساءه جميعاً ... كانوا يهمسون بهذا والحسرة تملأ قلوبهم والهميقض ّ مضاجعهم وقد أقام الناس بالمسجد يعبثون بالحصى , ويجيلون العيون زائغة , لاتستقر على حال من القلق . وبينما هم كذلك إذ ينتفض عمر رضي الله عنه قائماً منبينهم فيقصد إلى مقام النبي صلى الله عليه وسلم ويستأذن غلامه رباحاً فإذا دخل الغلام إلى سيده رجع إلى عمر و وقف فلم يجب فيرفع إبن الخطاب صوته بالإستئذان والإلحاح , فيؤذن له فإذا هو بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم ثم يجيل بصره فيالحجرة ويبكي والنبي يقول له " ما يبكيك يا بن الخطاب " فيذكر للنبي سبب بكائه , فيرده النبي إلى الصواب بقول رفيق كريم . ثم قال عمر يا رسول الله ما يشق عليك منأمر النساء ! إن كنت طلقتهن فإن الله معك وملائكته وجبريل وميكال وعمر وأبا بكروالمؤمنين أجمعين ... ثم يقبل عمر رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه وسلم فيحدثه بحديث يسري عن نفسه ويضحكه ... فلما آنس عمر منه ذلك ذكر له خبر المسلمين بالمسجد وكلامهم وآلامهم ورجا النبي أن يفضي إليه بالقول الفصل في أمر نسائه فذكرله الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لم يطلقهن . حينئذ نزل عمر إلى المسجد و نادىبأعلى صوته : إن النبي لم يطلق نساءه فإستبشر الناس وسرت إلى قلوبهم الطمأنينةوإهتزوا هزة الفرح والسرور , وإذا النبي صلى الله عليه وسلم مقبل ٌ على نسائهتائبات بين يديه عابدات حتى نزل الروح الأمين يحمل رسالة الله إلىالمؤمنين
:يا أيهاالنبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم [التحريم : 1] قدفرض الله لكم تحلة أيمانكم والله مولاكم وهو العليم الحكيم [التحريم : 2] وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض عن بعضفلما نبأها به قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير [التحريم : 3] إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير [التحريم : 4] عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكارا [التحريم : 5]